بقلم الأستاذ: السـيد نزيلي
.
الآن.. وقد منَّ الله علينا وأكرمنا، وتفضل علينا بالخروج من السجن، وبدأنا نستأنف عملنا في حقل الدعوة، وننخرط في خضمّ الحياة العامة، ونعيش مع الناس ونخالطهم، ونأخذ منهم ونعطيهم، ونتبادل التفاعل والتحاور في كل ما يعود على الجميع بالخير في الدنيا والآخرة، وفي الحال والمآل، ويحقق الإصلاح المنشود لإصلاح حال الأمة..
.
أراني.. رغم المدة البسيطة التي حيل فيها بيني وبين إخواني وأحبابي وأبنائي.. أجدني مشغولاً بموضوع "المحنة في حياة الدعاة" وهل هي "قدَر مقدور" أو "عارض منظور"؟ وهل لهذه المحن من غاية وهدف؟ أم هكذا بلا غاية ولا هدف؟ وهل تترك في حياة صاحبها دروسًا مستفادةً، وتحفر في وجدانه وروحه طاقاتٍ خلاقةً من الهمة والحركة والنشاط، ومن الإيجابية والانطلاقة الوثابة في مجال الدعوة والحياة.. أم أنها بعكس ذلك كله، تشد صاحبها إلى الانزواء والانكفاء والسلبية التي تعيده إلى الخلف، وتجعله بدل أن يخطو خطواتٍ إلى الأمام يراوح في مكانه، بل ربما يتراجع خطوات إلى الوراء؟ والعياذ بالله!!
.
ابتداءً.. أحب أن أشير إلى أن المحنة الأخيرة ليست الأولى في حياتي، ولا هي أول تجربة أخوضها، بل سبقها عشر سنوات من عام 65 إلى عام 75، ثم فترات اعتقال بسيطة في أول التسعينيات، ثم ثلاث سنوات في قضية 95 العسكرية، وخرجتُ- بقدر الله وفضله- منها جميعًا أقوى في كل مرة مما كنت عليه، مستمسكًا بدعوتي، محبًّا لها، متفانيًا في خدمتها، وحمل أمانتها، وتبليغ رسالتها، وصولاً بالأمة إلى مكانتها الرائدة من العالم، وهذا كله من باب التحدث بنعمة الله وفضله.
.
إن هذه المحن قد وقعت في مدى زمني ما بين عام 1965، وهذا العام الذي نعيشه وهو 2007م، وهذا يشكِّل إطارًا زمنيًّا قدره 42 عامًا، ولا شك أنها مدة طويلة من العمل، تمثِّل مرحلة الشباب والفتوة في حياتي، ثم مرحلة الرجولة والحكمة والتفتح، ثم أخيرًا مرحلة الشيخوخة وخريف العمر، ونسأل الله حسن العاقبة، وأن يختم لنا بالخير والثبات على دعوته إلى أن نلقاه سبحانه لقاءً كريمًا، يرضى فيه عنا، وينعم علينا بالفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
.
المهم أن هذه المراحل العمرية جميعها- والتي عايشت فيها محنة السجن- ما وجدت فارقًا كبيرًا بين مرحلة ومرحلة، ولا بين شباب وشيخوخة، إنما كان هناك رباطٌ يجمعها جميعًا، هذا الرباط هو الإيمان الكامل بالمبدأ، والتضحية من أجله والثبات عليه يمنع من التفريط فيه أو الاغترار بغيره، وذلك كله متى وضح الهدف وتحددت الغاية، وبانت معالم الطريق..
.
في كل مرحلة عمرية من هذه المراحل يوفقني الله أن أستقبل كل محنة بنفس راضية، وقلب مطمئن، وروح صافية، تنظر إلى أن كل ما يأتي به الله للمؤمن كله خير؛ تبعًا للحديث الشريف: "عجبًا لأمر المؤمن.. إن أمره كله له خير.. إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن".
.
ويدعم ذلك كله في كل المحن استثمار الوقت- وما أطوله- في مرضاة الله، وتزكية النفس، وتعويدها على الطاعات، والاغتراف من السمو الروحي، والعلو الإيماني، والبناء النفسي الذي تتحطَّم أمامه عوامل الانشغال بأمور الحياة والمعاش والزوجة والأولاد، وكل ما من شأنه، من أمور لا نملك حيالها صرفًا ولا نصرًا، ولا يزيد الانشغال بها إلا اضطرابًا في النفس، وتشتتًا في الذهن، وتوزُّعًا في المشاعر، وقد تؤدي في النهاية إلى يأس وقنوط، وشرود وإحباط، وهذه بلا شك أمراض فتاكة لأصحاب الدعوة الذين يقدِّر الله أن يخوضوا مثل هذه المحن والابتلاءات.
.
شاء الله عز وجل وأكرمني أن أكون من عداد الناجين من الفتن، المستمسكين بحبله المتين، الذين يعضُّون على دعوتهم بالنواجذ، وذلك بعدما عشنا في سجن قنا فترةً من الزمن مع الجيل الذي عاش في السجون فترةً طويلةً، قاربت العشرين عامًا، ومن رموز هذا الجيل العظيم جميع المرشدين السابقين، من لدن الأستاذ عمر التلمساني إلى مرشد الجماعة الحالي الأستاذ محمد مهدي عاكف، بارك الله فيهم جميعًا، وأنزلهم منازل الصالحين.
.
وقد تجسَّد الثبات على الدعوة في أشخاص هؤلاء الأساتذة الرواد جميعًا، فعلاً لا قولاً، وعملاً لا ادِّعاءً، فكانوا بذلك نماذج حية، وأمثلةً شامخةً، يحفظ الله بها دعوة الإسلام، ويحقق بذلك وعده الذي لا يتخلَّف إلى أن تقوم الساعة بإذن الله، باستمرارية هذا الحق، واستعصائه على الإفناء، ومناعته ضد الإقصاء أو الإبادة.. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8) ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).
.
والثبات على الحق في المحن والابتلاءات لا يكون بغزارة العلم أو قوة الجسم أو كثرة المال أو وجاهة الجاه أو السلطان السابق، أو أي من أعراض الدنيا فقط، وإنما هو نتاجٌ لما وقَرَ في القلب من الإيمان العميق، والتقوى والورع والرقابة الدائمة لله عز وجل، التي تتمثل في رجاء رحمته وخشية عقابه ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ (الإسراء: من الآية 57)، وتعظيم الدار الآخرة في النفس والقلب، والعمل لها، ثم حب نصرة دين الله عز وجل في واقع حياة الفرد والمجتمع والأمة بأسرها؛ باستحضار نية الجهاد الصحيح، والعودة بالأمة جميعها إلى شريعة الإسلام عودًا حميدًا، وأوبةً ميمونةً، ويومئذ يتحقق للدنيا كلها الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، ويتحرر الجميع من عبادة العباد، وذل المعاصي والتيه الذي يتخبطون فيه بين المبادئ والقيم التي وضعها البشر، والتي تنتهي بهم إلى لا شيء؛ فلا استقرار ولا راحة بال، ولا محطة يلتقطون فيها الأنفاس، بعد أن تقطَّعت بهم السبل، وزاغت بهم الطرق.. ﴿لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ﴾ (التوبة: من الآية 118).
.
الثبات في المحن والشدائد.. يأتي باللجوء إلى الله ،ودوام التعلق به وحده، واستمداد القوة منه "لا حول ولا قوة إلا بالله " وتفويض الأمر إليه.. ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: من الآية 44)، والخروج من حول الفرد وقوته وماله وذكائه وعزوته إلى حول الله وقوته؛ فهو سبحانه صاحب الحول والطول بيده ملكوت السماوات والأرض، مالك الملك ذو الجلال والإكرام.
.
وفي المحن والشدائد يفتِّش المسلم في جوانب نفسه المختلفة وهو أدرى بجوانب النقص الذي يعتريه، ونواحي التقصير الذي يقع فيه؛ فيتجه إلى هذه النفس؛ فيعمل على استكمال الخير فيها، وينمِّي عوامل الإيجابيات، ويتخلص مما يشوبه من السلبيات، ويحاول أن يتمِّم البناء الإيماني والخلقي والعبادي في هذه الخلوة (السجن) التي أرادها الله له، طالت أم قصرت؛ حيث إنها فرصة طيبة ومناسبة سانحة، إلى تزكية النفس، وطهر القلب، واستقامة الوجهة، والإخلاص لله الذي يلف حياته كلها.
.
وفي المحن والشدائد يخالط الأخ إخوانه في المعتقل أو السجن، وتكون المعايشة كاملةً ودائمةً بدوام المدة التي يقدِّرها الله عز وجل، فيعرفهم عن قرب، ويتعرف عليهم بعمق؛ بما لا يتاح لأي منهم في حياة الحرية، فيحدث بذلك تبادل الفائدة، وكمال الاختلاط، والتمازج في الطباع والأخلاق، فتتعمَّق الأخوَّة، ويزيد الحب.. وتزول الوحشة.. ويتم تبادل المنافع والخيرات.. وتتأكد الأخوَّة.. ويعين بعضهم بعضًا على الطاعة.. ويتعاونون على البر والتقوى.. ويستكملون في أنفسهم صورة المجتمع المسلم الذي يتمنَّونها في عالم الواقع وحياة الناس كل الناس، من صفات التراحم والنجدة وإغاثة اللهفان، والنخوة والمسارعة في خدمة الغير، والإيثار والسمو والطهر والعفة والفضيلة والشرف والرفق.
.
وفي محنة السجن يزداد المرء تعلقًا بالله واستمساكًا بحبله المتين وصراطه المستقيم، وتتعلق روحه بخالقها سبحانه، ويكون أمامه الوقت فسيحًا وواسعًا لكثرة الاستغفار والإكثار من النوافل "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه"، وتلاوة القرآن ومصاحبته في أغلب الأوقات، والابتهال إلى الله، والتضرع إليه، والبكاء بين يديه والصلاة في جوف الليل؛ فهي معراج المؤمن وشرفه كذلك، ومراجعة القرآن لمن يحفظه مرات ومرات، قد تصل إلى أن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، ثم هناك فرصة للذين يريدون حفظه وتجويده وفهمه وتدبّره، ومحاولة التخلق به.
.
ومع هذا الخير العميم الذي يعيشه من كتب الله عليه أن يقضي فترةً من عمره في هذه السجون- حيث تتحول المحنة بفضل الله ورحمته إلى منحة- غير أنه يجب أن يستقر في الأذهان أن الأصل أن يعيش المسلم حياته حرًّا طليقًا، يتحرك في واقع حياة الناس بدعوته، ويمارس حياته الطبيعية بين أهله وعشيرته.. بين زوجه وأبنائه، يتولى شأنهم، ويرعى أمورهم، ويأخذ بأيديهم إلى الخير والبر والأمان.
.
ولذلك كان من نهج الصالحين ألا يتمنوا لقاء العدو، ولكن إذا تم ذلك فالثبات مطلوب، كما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عندما تلا عليه أحد الصحابة الآية الكريمة التي وردت على لسان سيدنا يوسف عليه السلام ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: من الآية 33) قال صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أخي يوسف.. لو سأل العافية" أي كان أولى أن يسأل العافية بدل السجن.
.
نسأل الله العافية لكل إخواننا المعتقلين والمأسورين، وأن يرفع يد الظلم عنهم، وأن يكتب لهم فرجًا قريبًا، وقبولاً للجهاد والصبر، ونصرًا للإسلام يشفي الصدور.
.
.الآن.. وقد منَّ الله علينا وأكرمنا، وتفضل علينا بالخروج من السجن، وبدأنا نستأنف عملنا في حقل الدعوة، وننخرط في خضمّ الحياة العامة، ونعيش مع الناس ونخالطهم، ونأخذ منهم ونعطيهم، ونتبادل التفاعل والتحاور في كل ما يعود على الجميع بالخير في الدنيا والآخرة، وفي الحال والمآل، ويحقق الإصلاح المنشود لإصلاح حال الأمة..
.
أراني.. رغم المدة البسيطة التي حيل فيها بيني وبين إخواني وأحبابي وأبنائي.. أجدني مشغولاً بموضوع "المحنة في حياة الدعاة" وهل هي "قدَر مقدور" أو "عارض منظور"؟ وهل لهذه المحن من غاية وهدف؟ أم هكذا بلا غاية ولا هدف؟ وهل تترك في حياة صاحبها دروسًا مستفادةً، وتحفر في وجدانه وروحه طاقاتٍ خلاقةً من الهمة والحركة والنشاط، ومن الإيجابية والانطلاقة الوثابة في مجال الدعوة والحياة.. أم أنها بعكس ذلك كله، تشد صاحبها إلى الانزواء والانكفاء والسلبية التي تعيده إلى الخلف، وتجعله بدل أن يخطو خطواتٍ إلى الأمام يراوح في مكانه، بل ربما يتراجع خطوات إلى الوراء؟ والعياذ بالله!!
.
ابتداءً.. أحب أن أشير إلى أن المحنة الأخيرة ليست الأولى في حياتي، ولا هي أول تجربة أخوضها، بل سبقها عشر سنوات من عام 65 إلى عام 75، ثم فترات اعتقال بسيطة في أول التسعينيات، ثم ثلاث سنوات في قضية 95 العسكرية، وخرجتُ- بقدر الله وفضله- منها جميعًا أقوى في كل مرة مما كنت عليه، مستمسكًا بدعوتي، محبًّا لها، متفانيًا في خدمتها، وحمل أمانتها، وتبليغ رسالتها، وصولاً بالأمة إلى مكانتها الرائدة من العالم، وهذا كله من باب التحدث بنعمة الله وفضله.
.
إن هذه المحن قد وقعت في مدى زمني ما بين عام 1965، وهذا العام الذي نعيشه وهو 2007م، وهذا يشكِّل إطارًا زمنيًّا قدره 42 عامًا، ولا شك أنها مدة طويلة من العمل، تمثِّل مرحلة الشباب والفتوة في حياتي، ثم مرحلة الرجولة والحكمة والتفتح، ثم أخيرًا مرحلة الشيخوخة وخريف العمر، ونسأل الله حسن العاقبة، وأن يختم لنا بالخير والثبات على دعوته إلى أن نلقاه سبحانه لقاءً كريمًا، يرضى فيه عنا، وينعم علينا بالفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
.
المهم أن هذه المراحل العمرية جميعها- والتي عايشت فيها محنة السجن- ما وجدت فارقًا كبيرًا بين مرحلة ومرحلة، ولا بين شباب وشيخوخة، إنما كان هناك رباطٌ يجمعها جميعًا، هذا الرباط هو الإيمان الكامل بالمبدأ، والتضحية من أجله والثبات عليه يمنع من التفريط فيه أو الاغترار بغيره، وذلك كله متى وضح الهدف وتحددت الغاية، وبانت معالم الطريق..
.
في كل مرحلة عمرية من هذه المراحل يوفقني الله أن أستقبل كل محنة بنفس راضية، وقلب مطمئن، وروح صافية، تنظر إلى أن كل ما يأتي به الله للمؤمن كله خير؛ تبعًا للحديث الشريف: "عجبًا لأمر المؤمن.. إن أمره كله له خير.. إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن".
.
ويدعم ذلك كله في كل المحن استثمار الوقت- وما أطوله- في مرضاة الله، وتزكية النفس، وتعويدها على الطاعات، والاغتراف من السمو الروحي، والعلو الإيماني، والبناء النفسي الذي تتحطَّم أمامه عوامل الانشغال بأمور الحياة والمعاش والزوجة والأولاد، وكل ما من شأنه، من أمور لا نملك حيالها صرفًا ولا نصرًا، ولا يزيد الانشغال بها إلا اضطرابًا في النفس، وتشتتًا في الذهن، وتوزُّعًا في المشاعر، وقد تؤدي في النهاية إلى يأس وقنوط، وشرود وإحباط، وهذه بلا شك أمراض فتاكة لأصحاب الدعوة الذين يقدِّر الله أن يخوضوا مثل هذه المحن والابتلاءات.
.
شاء الله عز وجل وأكرمني أن أكون من عداد الناجين من الفتن، المستمسكين بحبله المتين، الذين يعضُّون على دعوتهم بالنواجذ، وذلك بعدما عشنا في سجن قنا فترةً من الزمن مع الجيل الذي عاش في السجون فترةً طويلةً، قاربت العشرين عامًا، ومن رموز هذا الجيل العظيم جميع المرشدين السابقين، من لدن الأستاذ عمر التلمساني إلى مرشد الجماعة الحالي الأستاذ محمد مهدي عاكف، بارك الله فيهم جميعًا، وأنزلهم منازل الصالحين.
.
وقد تجسَّد الثبات على الدعوة في أشخاص هؤلاء الأساتذة الرواد جميعًا، فعلاً لا قولاً، وعملاً لا ادِّعاءً، فكانوا بذلك نماذج حية، وأمثلةً شامخةً، يحفظ الله بها دعوة الإسلام، ويحقق بذلك وعده الذي لا يتخلَّف إلى أن تقوم الساعة بإذن الله، باستمرارية هذا الحق، واستعصائه على الإفناء، ومناعته ضد الإقصاء أو الإبادة.. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8) ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).
.
والثبات على الحق في المحن والابتلاءات لا يكون بغزارة العلم أو قوة الجسم أو كثرة المال أو وجاهة الجاه أو السلطان السابق، أو أي من أعراض الدنيا فقط، وإنما هو نتاجٌ لما وقَرَ في القلب من الإيمان العميق، والتقوى والورع والرقابة الدائمة لله عز وجل، التي تتمثل في رجاء رحمته وخشية عقابه ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ (الإسراء: من الآية 57)، وتعظيم الدار الآخرة في النفس والقلب، والعمل لها، ثم حب نصرة دين الله عز وجل في واقع حياة الفرد والمجتمع والأمة بأسرها؛ باستحضار نية الجهاد الصحيح، والعودة بالأمة جميعها إلى شريعة الإسلام عودًا حميدًا، وأوبةً ميمونةً، ويومئذ يتحقق للدنيا كلها الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، ويتحرر الجميع من عبادة العباد، وذل المعاصي والتيه الذي يتخبطون فيه بين المبادئ والقيم التي وضعها البشر، والتي تنتهي بهم إلى لا شيء؛ فلا استقرار ولا راحة بال، ولا محطة يلتقطون فيها الأنفاس، بعد أن تقطَّعت بهم السبل، وزاغت بهم الطرق.. ﴿لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ﴾ (التوبة: من الآية 118).
.
الثبات في المحن والشدائد.. يأتي باللجوء إلى الله ،ودوام التعلق به وحده، واستمداد القوة منه "لا حول ولا قوة إلا بالله " وتفويض الأمر إليه.. ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: من الآية 44)، والخروج من حول الفرد وقوته وماله وذكائه وعزوته إلى حول الله وقوته؛ فهو سبحانه صاحب الحول والطول بيده ملكوت السماوات والأرض، مالك الملك ذو الجلال والإكرام.
.
وفي المحن والشدائد يفتِّش المسلم في جوانب نفسه المختلفة وهو أدرى بجوانب النقص الذي يعتريه، ونواحي التقصير الذي يقع فيه؛ فيتجه إلى هذه النفس؛ فيعمل على استكمال الخير فيها، وينمِّي عوامل الإيجابيات، ويتخلص مما يشوبه من السلبيات، ويحاول أن يتمِّم البناء الإيماني والخلقي والعبادي في هذه الخلوة (السجن) التي أرادها الله له، طالت أم قصرت؛ حيث إنها فرصة طيبة ومناسبة سانحة، إلى تزكية النفس، وطهر القلب، واستقامة الوجهة، والإخلاص لله الذي يلف حياته كلها.
.
وفي المحن والشدائد يخالط الأخ إخوانه في المعتقل أو السجن، وتكون المعايشة كاملةً ودائمةً بدوام المدة التي يقدِّرها الله عز وجل، فيعرفهم عن قرب، ويتعرف عليهم بعمق؛ بما لا يتاح لأي منهم في حياة الحرية، فيحدث بذلك تبادل الفائدة، وكمال الاختلاط، والتمازج في الطباع والأخلاق، فتتعمَّق الأخوَّة، ويزيد الحب.. وتزول الوحشة.. ويتم تبادل المنافع والخيرات.. وتتأكد الأخوَّة.. ويعين بعضهم بعضًا على الطاعة.. ويتعاونون على البر والتقوى.. ويستكملون في أنفسهم صورة المجتمع المسلم الذي يتمنَّونها في عالم الواقع وحياة الناس كل الناس، من صفات التراحم والنجدة وإغاثة اللهفان، والنخوة والمسارعة في خدمة الغير، والإيثار والسمو والطهر والعفة والفضيلة والشرف والرفق.
.
وفي محنة السجن يزداد المرء تعلقًا بالله واستمساكًا بحبله المتين وصراطه المستقيم، وتتعلق روحه بخالقها سبحانه، ويكون أمامه الوقت فسيحًا وواسعًا لكثرة الاستغفار والإكثار من النوافل "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه"، وتلاوة القرآن ومصاحبته في أغلب الأوقات، والابتهال إلى الله، والتضرع إليه، والبكاء بين يديه والصلاة في جوف الليل؛ فهي معراج المؤمن وشرفه كذلك، ومراجعة القرآن لمن يحفظه مرات ومرات، قد تصل إلى أن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، ثم هناك فرصة للذين يريدون حفظه وتجويده وفهمه وتدبّره، ومحاولة التخلق به.
.
ومع هذا الخير العميم الذي يعيشه من كتب الله عليه أن يقضي فترةً من عمره في هذه السجون- حيث تتحول المحنة بفضل الله ورحمته إلى منحة- غير أنه يجب أن يستقر في الأذهان أن الأصل أن يعيش المسلم حياته حرًّا طليقًا، يتحرك في واقع حياة الناس بدعوته، ويمارس حياته الطبيعية بين أهله وعشيرته.. بين زوجه وأبنائه، يتولى شأنهم، ويرعى أمورهم، ويأخذ بأيديهم إلى الخير والبر والأمان.
.
ولذلك كان من نهج الصالحين ألا يتمنوا لقاء العدو، ولكن إذا تم ذلك فالثبات مطلوب، كما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عندما تلا عليه أحد الصحابة الآية الكريمة التي وردت على لسان سيدنا يوسف عليه السلام ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: من الآية 33) قال صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أخي يوسف.. لو سأل العافية" أي كان أولى أن يسأل العافية بدل السجن.
.
نسأل الله العافية لكل إخواننا المعتقلين والمأسورين، وأن يرفع يد الظلم عنهم، وأن يكتب لهم فرجًا قريبًا، وقبولاً للجهاد والصبر، ونصرًا للإسلام يشفي الصدور.
.
...والله من وراء القصد...